
أدعي أن الشرط التاريخي للفيلسوف لم يوجد ولن يوجد في النساء، لأن الفيلسوف له شروط لن تتحقق لهن، يكمن توترٌ فلسفي عميق بين الفكر والتاريخ، بين الجوهر والتمكين، وبين القدرة والتصور الثقافي.
لا أريد للعبارة أن تُقرأ كحكم بيولوجي أو تحقير مباشر، بل كبنية فكرية تستدعي التفكيك، لأن “الفيلسوف” حالة ذهنية ووجودية تتطلب شروطًا استثنائية من العزلة، القطيعة، الجرأة، والمجابهة.
لماذا غابت هذه الشروط حقًا عن النساء؟
أم أن التاريخ نفسه قد كُتب بطريقة تستبعد المرأة من فضاءات إنتاج المعنى؟
هل الشرط التاريخي غير متحقق؟ أم أن الوعي به هو غير متاح ضمن بنية ذكورية طويلة المدى؟
سأخصّص عدة مقالات لتفكيك هذه الفكرة، من خلال مساءلة المفاهيم الثلاثة التي ترتكز عليها:
- الشرط التاريخي
- صورة الفيلسوف كنبيّ للعقل
- المرأة وموقعها في صيرورة الفكر
وفي هذا المقال، أكرّس التأمل لمفهوم “الشرط التاريخي غير المتحقق”، كمدخل أولي، نحاول من خلاله فهم لماذا لم تُنتج الثقافة الإنسانية، حتى اليوم، نساء فيلسوفات من طينة المعلّمين الكبار؛ أولئك الذين أعادوا تشكيل بنية العقل ومفاتيح الوجود.
مقدمة
في قلب كل جملة فلسفية كثيفة، يسكن تاريخ من الأسى، والاحتمال، والغياب. الجملة التي نقف عندها اليوم ليست تقريرًا، ولا حُكمًا، بل نداء خافتًا من قلب الفقد: ولعل الموجع حقًا هو أن هذا الشرط التاريخي لم يوجد… وربما لن يوجد. تبدو هذه العبارة للوهلة الأولى يأسًا مهذبًا، لكنها تحمل في طياتها طبقات من المعنى الفلسفي العميق، تتصل بالوجود، بالزمن، بالإمكان، وباللاعدالة التي تطال حتى احتمالات التفكير.
حين نقول إن “الشرط التاريخي لم يوجد”، فنحن لا نعبّر فقط عن حدث لم يقع، بل عن إمكان لم يُسمَح له بالتشكل أصلاً. فكما أن كانط رأى أن الوعي لا يمكنه إدراك الظواهر دون شروط الزمان والمكان، كذلك الوجود الفلسفي لا يمكن أن يتحقق إلا ضمن شروط تاريخية معينة، تسمح للذات بأن تطرح السؤال الفلسفي من موقع القلق لا من موقع الخدمة أو النجاة. الشرط التاريخي إذًا ليس مجرد خلفية، بل هو حاضنة الإمكان، وإن غابت، غاب الإمكان نفسه، لا كمؤجل بل كملغى.
الشرط التاريخي: فكرة مشروطة بمن كتب التاريخ
في تاريخ الفكر، قلّما يتم التعامل مع ظهور الفيلسوف كحادثٍ عابر. بل غالبًا ما يُفهم هذا الظهور كاستجابة لشروط تاريخية دقيقة، تجعل من صوت المفكر ضرورة زمنية لا مصادفة. هذا ما يُعرف بـ”الشرط التاريخي”، تلك اللحظة المركّبة التي يلتقي فيها الفرد بتيار الزمن فيخرج منه كصوت مفسِّر أو متجاوز. لكن، من يصنع هذا الشرط؟ ومن يقرر من يستحق أن يُستدعى لتلك اللحظة بوصفه “صاحب المعنى”؟ وهل هو شرط محايد أم أنه محكوم بمن يكتب التاريخ ذاته؟

لقد تعامل إدموند هوسرل مع التاريخ بوصفه طبقات من المعنى يتراكم فيها الوعي، معتبرًا أن كل لحظة فكرية هي استمرار لسابقة، ضمن سيرورة قصدية تُبنى من الداخل. فالشرط التاريخي عنده ليس مجرد ظرف خارجي، بل سيرورة تعقُّل. أما فوكو فقد قلب الطاولة على هذا الفهم الداخلي، معتبرًا أن الشرط التاريخي هو دائمًا “شَبَكة قوى”، تُتيح لبعض الأصوات أن تظهر وتحجب أخرى، وفق أنظمة الخطاب والمعرفة المهيمنة. عند كارل ياسبرز، الشرط التاريخي يكتسب بعدًا وجوديًا في ما سمّاه “الحقبة المحورية” (Achsenzeit)، حيث تنفجر الأسئلة الكبرى من داخل روح الزمن، ويبرز فيها “الفيلسوف” بوصفه مستجيبًا لها، لا متفوقًا عليها.

لكن ما يغيب غالبًا عن هذه القراءات هو سؤال الانتقاء: من يُمنح حق الظهور في لحظة “الانفجار التاريخي”؟ ولماذا كان هذا الحق، في أغلب الأحوال، حكرًا على الرجال؟
إن “الشرط التاريخي” نفسه لم يكن يومًا محايدًا، بل كان دومًا نتيجة شبكة من التحيزات البنيوية. لم يُمنح للمرأة —في أغلب الأزمنة— فضاء العزلة، أو حرية التجريب الذهني، أو القطيعة الوجودية التي تكوّن ما نسميه “الفيلسوف”. تم تطبيع وضع المرأة ككائن مُنغمس في الاجتماعي، لا كائن قادر على الارتقاء إلى الكوني. وهذا لا يعني أن النساء لم يمتلكن القدرة، بل أن “الشرط” نفسه لم يُكتب لهن.
عندما سُئل فوكو عن غياب النساء في كتاباته عن السلطة والمعرفة، أجاب بصمت. لم يكن في وسعه أن يواجه حقيقة أن أنظمة الخطاب التي درسها، هي ذاتها أنظمة الإقصاء التي مارست نسيانًا ممنهجًا للنساء المفكرات. وحتى في الخطابات المعاصرة، لا تزال المرأة “تُستضاف” في الفكر، ولا “تؤسِّس” له.

من هنا، تُطرح المساءلة الحاسمة:
هل التاريخ سمح للرجل وحده بتجربة الانفصال والتجريد؟
أم أن هذه التجربة لم تُمنح إلا لمن تمّت شرعنته بوصفه “فاعلًا كونيًا”؟ وهل يكون الوجود الفلسفي ممكنًا خارج هذا الامتياز الذي منحه التاريخ للرجل دون سواه؟
إن إعادة النظر في “الشرط التاريخي” ليس ترفًا نظريًا، بل ضرورة تفكيكية.
فما لم نفهم أن الشرط نفسه كان مؤدلجًا، فإننا سنستمر في تكرار التاريخ ذاته: بإنتاج “الفيلسوف” على مقاسٍ لا يسمح بغيره.

الفكر الحقيقي لا يتهرّب من الأسى، بل يقيم فيه. والجمل الموجعة ليست ضعفًا، بل قنوات يعبر منها الإدراك العميق للحقيقة. أن نعترف بأن الشرط التاريخي لم يوجد، وربما لن يوجد، لا يعني الاستسلام، بل الدخول في أخلاق الحداد الفلسفي، حيث يُمارَس الفكر رغم الفقد، وحيث نكتب لا لنستدرك، بل لنؤرّخ لما لم يُسمَح له أن يكون.

وهكذا، يتضح أن ما نسميه “الشرط التاريخي” ليس مجرد ظرف زمني محايد، بل شبكة معقدة من التحيزات والبُنى الخطابية التي منحت بعض الذوات شرعية الظهور وأقصت غيرها بصمت طويل.
لكن السؤال لا يزال مفتوحًا: هل يمكن اليوم، أو غدًا، إعادة صياغة هذا الشرط ليكون ممكنًا لذاتٍ نسوية أن تحتل مقام “الفيلسوف” كما شغل الرجل مقامه في الذاكرة الكبرى للعقل؟
في المقال القادم، أعود لاستكمال هذا التفكيك، متناولًا صورة الفيلسوف كنبيّ للعقل، كما صاغها ياسبرز، واستنادًا إلى إشكالات فوكو حول الأرشيف والمعرفة، وسؤال الوجود عند هايدغر، لنفهم لماذا لم يكن “الفيلسوف” مجرّد مفكر، بل نمطًا وجوديًا كاملًا قد لا يتكرر.