الجزء الثاني من السلسلة بعنوان: لماذا لم تنتج البشرية فلاسفة نساء بحجم المعلمين الكبار
“لقد كُنت دائمًا أفكر، لكن لم يُسمح لي يومًا أن أقول إنني أفكر.”
مارغريت كافنديش
في الجزء الأول، عاينّا مسألة “الشرط التاريخي غير المتحقق” بوصفه الغياب التأسيسي الذي منع تشكّل الفيلسوفة كما تشكّل الفيلسوف: كفاعل كوني، لا مجرد شاهدة هامشية على الفكر. أما في هذا المقال، فننقل التحليل من البنية الظرفية إلى البنية الرمزية، لنفهم كيف بُنيت صورة الفيلسوف نفسها بوصفه “نبيًّا للعقل”، ولماذا لم يكن هذا المقام متاحًا للنساء في سجلّ الذاكرة الفلسفية.
النبوّة العقلية: الأصل الرّمزي لصورة الفيلسوف
في كتاباته المتأخرة، وصف كارل ياسبرز الفلاسفة الكبار بأنهم “أنبياء العقل” — أولئك الذين لا يقدّمون مجرد أفكار، بل يوقظون البشرية من سباتها. سقراط، بوذا، كونفوشيوس، المسيح… رموز اعتبرهم ياسبرز شخصيات محورية في لحظة الوعي الإنساني الأعلى، حيث لا يعود التفكير تمرينًا ذهنيًا، بل طريق نجاة.
هذه الصورة النبوية ليست دينية، بل رمزية. الفيلسوف —في هذا التشكيل— ليس عالمًا بين علماء، بل مستبصرًا، مبشّرًا، متسائلًا وجوديًا على تخوم الجنون. إنّه من يحمل مرآة الحقيقة في وجه البشرية، ولو تحطمت عليه. لكن هذا المقام، من الذي سُمح له بتجسيده؟
من يملك شرعية أن يكون “النبيّ العقلي”؟ من يُسمَح له أن يقف على منصة المعنى، ويقول: “هذا هو الإنسان، وهذه هي الحقيقة”؟ وما الذي يجعل المرأة، عبر التاريخ، تقف أمام هذه المنصة — لا عليها؟
جاك دريدا – الكتابة والاختلاف:
“ما يُنسى في الفلسفة أكثر مما يُتذكّر، لأن ما يُتذكّر هو ما كان يُسمح له أن يُكتب.”
صناعة صورة الفيلسوف: مجاز القوة والذكورة
عند العودة إلى الأيقونات الكبرى للفلسفة، نلاحظ تماثلًا عميقًا بين صورة الفيلسوف وصورة الزعيم، المحارب، المنقذ، أو حتى الشهيد. فنيتشه أعاد صياغة الفيلسوف كـ“مشرّع للقيم”، أفلاطون جعله حاكمًا مثاليًا، ديكارت وضعه كسلطة الكوجيتو على العالم، وهيغل رأى فيه روح التاريخ التي تتحرك. لا أحد منهم تصوّر الفيلسوف امرأة.
ليس فقط لأن المرأة كانت مقصيّة اجتماعيًا، بل لأن صورة الفيلسوف نفسها قد شُكّلت على مقاسات الهيمنة الرمزية التي تجعل “النبوّة العقلية” حكرًا على الرجل. فالفيلسوف، في هذه الصورة، هو من يقطع مع الجماعة، يتحدّى السلطة، يبتدع لغة، يواجه مصيرًا، بل أحيانًا يُنفى أو يُحكم عليه بالموت… وهو، في كل هذا، لا يُرى إلا في قالب ذكوري.
ليس صدفة أن سيمون دي بوفوار، التي شكّلت مرجعية فكرية عميقة، لم تُلقّب يومًا بـ“نبيّة العقل”، رغم مساهماتها الفلسفية في تحرير المرأة والوجود. بل حتى هي كانت واعية أن المرأة —في اللاوعي الثقافي— لا يُنتظر منها أن “تؤسس” بل أن “تُتبع”.
حين تُرسم النبوءة في جسد الرجل
لكن هنا، في خضم هذا التفكيك، لا بد أن نستحضر المقولة الشهيرة لسيمون دو بوفوار: “لا تولد المرأة امرأة، بل تُصبح كذلك.” مقولة وجودية بقدر ما هي تفكيكية، تنسف كل تصور جوهري للهوية الأنثوية، وتفتح أمامنا سؤالًا معاكسًا لكن لا يقل خطورة: هل وُلد الرجل فيلسوفًا؟ أم أنه “أُنتج” كفيلسوف عبر طقوس النبوة العقلية؟
إن أعدنا صياغة بوفوار من داخل هذا السياق الفلسفي، لقلنا: لا يولد أحد فيلسوفًا، بل يُصبح كذلك… حين يُستدعى إلى مقام النبوءة العقلية. لكن، من يستدعي؟ ومن يملك مفاتيح النبوة؟
في الثقافات التي صاغت مفهوم “العقل” بوصفه مطلقًا، و”الفكر” بوصفه مَعبرًا إلى الكونية، لم تكن هذه المفاهيم بلا جسد. بل لطالما كُتبت في جسد الرجل، وبُنيت على خبرته الوجودية. صورة الفيلسوف عند كارل ياسبرز مثلًا، هي صورة النبيّ، الذي يسمع نداء الوجود ويستجيب له من موقع اختياري، لا تكليفي؛ ينسحب من العالم لا ليعتزل، بل ليُعيد تشكيله. وهذا الانسحاب لم يكن ممكنًا للجميع، بل لمن منحه التاريخ شَرعية الانفصال، ومنح صوته صفة “الرسالة”.
صورة الفيلسوف كنبيّ: تأليه العقل في جسد تاريخي محدّد
من يقرأ نصوص فوكو، يلحظ تحوّل الفيلسوف إلى ما يشبه “أركيولوجي” يحفر في أنظمة الخطاب، لا ليكتشف الحقيقة، بل ليُعيد بناءها. لكنه لا يخرج عن الصورة الجوهرية للفيلسوف “المُرسَل”، صاحب الوعي المختلف، المنفصل، المتجاوز. وهنا، تغيب المرأة لا لأنها غير مفكرة، بل لأن نظام “النبوة العقلية” بُني ضدها.
الفيلسوف يُشبه النبيّ لا في طُهره بل في صدمته. في كونه الصوت الذي يُعيد ترتيب المعنى من تحت الأنقاض. لكن، من سُمح له بأن يتجوّل بين الأنقاض؟ من سُمح له بالصمت الكامل، ثم بالقول القاطع؟ من مُنح وقت السؤال، وشرعية القطيعة، وحق التجاوز؟ ليس من المبالغة القول إن صورة الفيلسوف عند الحداثة الغربية هي صورة رَجُل نُزعت عنه الضرورة البيولوجية ليُتوَّج بضرورة عقلية، تستبطن النبوءة. لا نبوءة الروح، بل نبوءة المفهوم.
وبهذا، فإن “النبوة العقلية” لم تكن سوى امتداد نبيل للامتياز الذكوري، محصّنة ضد المشاركة.
لماذا لم تدخل المرأة مقام الفيلسوف؟
لأن الدخول إليه يتطلب عتبة، والعتبة لم تُبْنَ قطّ عند بابها.
حنة آرندت – من كتاب “الحالة الإنسانية”:
“الفعل السياسي هو الظهور في الفضاء العام ككائن ناطق… ككائن يُرى ويُسمَع.”
وحتى حين أنتجت المرأة فكرًا، كما فعلت حنة آرندت، أو سوزان لانجر، أو سيمون فايل، ظلّت صورة الفيلسوف الكبرى محفوظة لرجلٍ يتلقى “الوحي الوجودي” وحده، في لحظة خارقة، ثم يعود ليملي علينا ما رآه في جبل العقل.
تفكيك النبوة العقلية:
ليس المطلوب اليوم أن نبحث عن “فيلسوفة” تشبه الرجل في العزلة والتجريد، بل أن نسأل: هل صورة “النبيّ العقلي” نفسها ممكنة في نسق آخر؟ هل نحتاج إلى تخيل مقام آخر للتفلسف، لا يتأسس على الصدمة، بل على التراكم؟ لا على الانفصال، بل على التوتر المستمر مع العالم؟ هل يكون التفكير النسوي لحظة تأمل لا تفجّر، لحظة حفر لا إعلان، لحظة مسائلة لا يقين؟
هل يمكن تحطيم هذه الصورة؟
صورة الفيلسوف كنبيّ للعقل ليست قدرًا. إنها مجاز ثقافي، يمكن مساءلته، وتفكيكه، وربما إعادة تركيبه. فالفكر لا يحتاج إلى عضلات، بل إلى تجربة وجودية مكثّفة. لكن هذه التجربة، تاريخيًا، كانت حكرًا على الرجل، لا لقصور في المرأة، بل لقصور في الشرط الاجتماعي والثقافي والرمزي الذي لا يعترف بأن الأنثى قادرة على خوض معركة الحقيقة وحدها.
لذلك فإن السؤال ليس: لماذا لم توجد النساء فلاسفة كبار؟ بل: ما الذي جعل صورة الفيلسوف أصلاً تتطلب ما لا يُمنح إلا للرجال؟
إننا لا نبحث عن إعادة توزيع الأدوار، بل عن تفكيك البنية التي جعلت مقام “نبيّ العقل” غير متاح للمرأة، حتى حين تفكّر، تتأمل، وتعاني مثل الرجل، أو أكثر.
إننا بحاجة لفلسفة لا تفتش عن نبيّ جديد، بل عن جماعة تسأل معًا، دون ناطق رسمي باسم الوجود.
ولعل أكبر خيانة للفكر النسوي أن يسعى فقط لإنتاج “فيلسوفة” على مقاس الفيلسوف الذكر، بدل أن يعيد التفكير في شروط الإمكان التي جعلت هذا المقام مغلقًا أمام النساء أصلًا. المرأة الفيلسوفة لا ينبغي أن تكون “نظيرًا” للرجل في صيغته التاريخية، بل اختراقًا لطريقة تمثّل الفلسفة لذاتها، ومساءلة عميقة لشكل الوجود الذي ظنّ أنه هو العقل. إن الفيلسوفة القادمة —إن أتت— لن تكون صورة معدّلة عن أفلاطون أو نيتشه، بل ستكون بداية لغة أخرى للفكر، لغة لا تنطق باسم المطلق، بل تكشف هشاشته؛ لا تطلب اليقين، بل تصغي للغائب فيه. إننا لا ننتظر ناطقة باسم الوجود، بل ذاتًا تفكك من الداخل نبرة “الناطق” ذاتها، وتفتح للفلسفة بابًا لم يُفتح من قبل.