هل تموت الفلسفة أم تتخفّى داخل التقنية؟

في مساءٍ رقميّ غريب، جلستُ أتأمل شاشة مضيئة أكثر من اللازم.

الآلة تفكّر، والإنسان يُعيد التفكير فيها.

تسألتُ فجأة:

هل تموت الفلسفة حين تنسحب من منابرها القديمة؟

أم أنّها تُهاجر إلى مختبرٍ إلكترونيّ جديد لتعيد تعريف ذاتها بصمت؟

تبدو الفلسفة الكلاسيكية اليوم كشيخٍ نبيلٍ أنهكه الزمن، كان يومًا مركز الكون، ثم تنحّى بصمتٍ حين تكلّم العلم بلسان الأرقام.

لكن… لم يمت.

لقد تحوّل، بدقةٍ غير عشوائية، إلى نبضٍ خفيّ في قلب كل فكرة علمية، وكل مشروعٍ تقنيّ، وكل سؤالٍ عن الإنسان في عصرٍ يُدار بالبيانات.

🜂 حين كانت الفلسفة تتكلّم من الأعالي

كان أفلاطون يرى العالم من سماء المثل، وأرسطو من منطق الأرض، والفلاسفة المسلمون من توازن بين الروح والعقل.

تلك كانت مرحلة السيادة؛ الفلسفة كانت أمّ العلوم، تعطي الأسماء، وتحدّد المعاني.

لكن القرن العشرين جاء ليقلب المعادلة:

العلم صار يتكلم بلغة الدليل، والفلسفة فقدت منبرها أمام أضواء المختبر.

بدأ البعض يقول: “الفلسفة ماتت”.

لكن كما كتب أحد الباحثين في Inside Higher Ed:

“أزمة الفلسفة اليوم ليست موتها، بل انتقالها من التنظير إلى الممارسة.”

الفيلسوف لم يعد فيلسوف المعبد، بل صار فيلسوف المختبر.

⚙️ في قلب الآلة… صوت الفيلسوف

أحد العلماء كتب في دراسة على arXiv عام 2024 أن مفاهيم أرسطو حول “المعرفة” ما زالت تُحدّد طريقة تفكير الذكاء الاصطناعي في “الفهم”.

تأمل ذلك:

الآلة الحديثة — التي تبدو بلا روح — ما تزال تُفكّر عبر الأسئلة التي طرحها الفلاسفة منذ ألفي عام.

كل خوارزمية تحمل خلفها سؤالًا فلسفيًا:

ما هو القرار العادل؟

كيف نعرّف الوعي؟

من يملك الحقيقة؟

هكذا عادت الفلسفة من الباب الخلفي للعلم، لتمنحه أساسًا أخلاقيًا ومعنًى إنسانيًا.

لم تعد الفلسفة “تعلو” على العلوم، بل “تتسلل داخلها” لتسأل: إلى أين أنتم ذاهبون؟

🧬 حين يكتب المهندس بلغة الفلاسفة

في وادي السيليكون، لا أحد يسمّي نفسه فيلسوفًا، ومع ذلك، كل مهندسٍ يُعيد كتابة مقولات الفلاسفة بطريقة أخرى.

حين يصمّم الذكاء الاصطناعي، هو في الحقيقة يعيد طرح سؤال ديكارت: “من أنا؟”

وحين يضع خوارزمية أخلاقية، فهو يُعيد تفسير كانط: “ما الذي يجب عليّ أن أفعله؟”

الفلسفة لم تختفِ؛

لقد تخلّت فقط عن عباءتها الثقيلة لتلبس معطف الباحث والمهندس والمفكر التقني.

وكما تذكر Stanford Encyclopedia of Philosophy، فإن فلسفة التكنولوجيا اليوم ليست نقدًا، بل “وعيًا جديدًا بالطريقة التي تُعيد بها التقنية تشكيل تجربتنا للعالم”【plato.stanford.edu】.

لم تعد الميتافيزيقا عن السماء؛

بل صارت ميتافيزيقا عن الشبكة، عن الإنسان الرقمي، عن الكائن الذي يعيش بين شاشة وذاكرة سحابية.

🌍 تحوّل الفلسفة من خطاب إلى ممارسة

في الماضي، كان الفيلسوف يكتب، والعالم يجرّب.

الآن، الاثنان يعملان معًا.

فلسفة العلم صارت جزءًا من تصميم التجربة العلمية نفسها.

الفيلسوف يدخل فريق البحث والتطوير كما يذكر SpringerLink، ليكون ضمير المشروع لا متفرجًا عليه【link.springer.com】.

الفلسفة صارت بنية تحتية للتفكير الحديث:

تحدّد معنى “البيانات” قبل تحليلها،

ومعنى “العدالة” قبل أن تُبرمجها الخوارزميات،

ومعنى “الحرية” قبل أن تمنحها للشبكات الاجتماعية.

🕊️ حين تموت الفلسفة بطريقة تجعلها خالدة

أجل، الفلسفة الكلاسيكية تموت…

لكن موتها هذا يشبه التحوّل الكيميائي:

تتحلل لتغذّي أشكالًا جديدة من الحياة الفكرية.

تموت كجسدٍ قديم، لتنهض كروحٍ تسكن كل سؤال علمي وتقني وأخلاقي.

لقد أصبحت الفلسفة اليوم مثل التيار الكهربائي: لا يُرى، لكنه شرط التشغيل لكل شيء.

ولهذا، حين يسأل أحدهم:

“هل ماتت الفلسفة؟”

أجيب: لا،

لقد أصبحت هي النظام التشغيلي للعقل الإنساني في عصر التقنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *