في هذا المقال الثالث من السلسلة، نواصل مساءلة سؤال: لماذا لم تُنتج البشرية فلاسفة نساء بحجم المعلّمين الكبار؟ بعد أن فككنا في المقال الأول مفهوم “الشرط التاريخي غير المتحقق”، وفي المقال الثاني صورة الفيلسوف كنبيّ للعقل، ننتقل الآن إلى المستوى الأعمق: المرأة وصيرورة الفكر.https://youtu.be/sT8g4MT8ofY?si=AVC5rMLerJoPD3OP
هل كان التاريخ يسمح للرجل وحده بتجربة الانفصال والتجريد؟ أم أن هذه التجربة – التي نراها ضرورية للتفلسف – لم تُمنح إلا لمن اعتُبر فاعلًا كونيًا؟ هل كان الوجود الفلسفي دومًا امتيازًا أُعطي لمن تتوفر فيه شروط الانفصال، القطيعة، الزمن الحر، والمكان المحايد؟
لكن، لماذا حكمت صيرورة الفكر على الرجل أن يكون الوحيد على عتباتها؟ لأن الفكر، كما تبلور تاريخيًا، لم يكن سوى امتداد لامتيازات اجتماعية ورمزية أعطت الرجل وحده حق العزلة، وحق التفرغ، وحق النطق باسم الكلي. كما بيّن ميشيل فوكو، فإن أنظمة الخطاب لا تسمح لكل الأصوات بالظهور، بل تنتقي من يمتلك سلطة الكلام ضمن شروطها. والرجل، في التاريخ الغربي خصوصًا، كان هو المُفكِّر المفترض، صاحب العقل المفارق، الممسك بلغة المفهوم. المرأة لم تُمنح هذا الامتياز، لا لأنها لا تفكر، بل لأن التفكير لم يُنسب إليها بوصفه فعلاً تأسيسيًا.
قال جاك دريدا: “ما يُنسى في الفلسفة أكثر مما يُتذكّر، لأن ما يُتذكّر هو ما كان يُسمح له أن يُكتب.” — وهذا يوضح كيف أن الذاكرة الفلسفية ذاتها انتقائية، ومبنية على سلطة التثبيت والإقصاء.
في بنية الفكر الغربي، كما في كثير من البنى الثقافية الأخرى، لم تُعطَ المرأة فرصة أن تكون “ذاتًا مفكرة”، بل ظلت حبيسة دورها الاجتماعي كزوجة، أم، خادمة، تابعة. لم يكن يُنظر إليها كفاعل معرفي، بل كمرآة للمطلق الذكوري، أو أداة لتأكيد ثنائية الرجل/العقل في مقابل المرأة/الجسد.
كما قالت سيمون دي بوفوار: “لا تولد المرأة امرأة، بل تُصبح كذلك” — أي أن الهوية الأنثوية ليست معطى طبيعيًا، بل بناء ثقافي وسياسي.
هذه الإزاحة الرمزية لم تكن مجرد إقصاء اجتماعي، بل استبعادًا إبستيمولوجيًا، أي نفيًا لقدرة المرأة على إنتاج المفهوم. فقد تكرّس ضمن الخطاب الفلسفي – بدءًا من أفلاطون وصولًا إلى هيغل – أن الفيلسوف هو من يمتلك القدرة على الانفصال عن الحسي، عن اللحظة، عن الذات الصغيرة، ليُعيد تشكيل العالم من منظور علوي أو مطلق. وهذا المقام، بكل مقوماته الرمزية، لم يُتصور أبدًا إلا في جسد الرجل.
لم تكن المرأة أقل فكرًا، بل كانت أقل ظهورًا. والفرق جوهري.
إننا لا نفتقد الفيلسوفات لأنهن لم يكنّ موجودات، بل لأن الشرط التاريخي لم يسمح لهن بالوجود في الفضاء العام بوصفهن ذواتًا فاعلات في إنتاج المعنى. لم يُسمح لهن بالتفرغ، بالعزلة، بالكتابة، بالمجازفة، بالصدام، وكلها شروط لصناعة الفكر الجذري.
بلغة حنة آرندت: “الفعل السياسي هو الظهور في الفضاء العام ككائن ناطق… ككائن يُرى ويُسمَع.” — ولم تُمنح المرأة هذا الحق إلا نادرًا، وبعد كفاح طويل.
في هذا السياق، علينا أن نُعيد مساءلة فكرة “صيرورة الفكر” نفسها: هل يجب أن تكون الفلسفة كما صاغها الرجل الغربي؟ هل التجريد شرط؟ هل العزلة شرط؟ هل القطيعة شرط؟ أم أن هناك إمكانًا لتفلسف مختلف، تفلسف يخرج من التجربة لا من الفصل عنها؟
كما تساءلت لوس إيرغاري: “من قال إن العقل بلا جسد؟ من قال إن المفهوم لا يمرّ من الرحم؟” — في دعوة لاعتبار التجربة الجسدية والأنثوية مصدرًا أصيلًا للتفلسف
المرأة اليوم لا تحتاج أن تُستدعى إلى مقام الفيلسوف، بل أن تعيد تعريف المقام ذاته.
إن التفكير النسوي الحقيقي لا يسعى إلى تكوين “نظيرة” للفيلسوف الذكر، بل إلى مساءلة الشروط نفسها التي منحت الرجل امتياز التفلسف.
وفي هذا، ربما نجد بداية جديدة للفلسفة: لا كصوت فردي ناطق باسم المطلق، بل كصيرورة جماعية، مفتوحة، تقبل التعدد، وتُفسح المجال لا لصوت المرأة، بل لشكل جديد من التفكير لا يُبنى على الإقصاء، بل على الإصغاء.
ربما لن تأتي الفيلسوفة القادمة من أعالي العزلة أو من كهوف التجريد، بل من قلب العالم، من التجربة اليومية، من الصوت الذي ظل مهمَّشًا طيلة قرون. الفلسفة لن تتجدد إن بقيت تنسخ صورها القديمة، بل حين تُصغي لما لم يُكتب بعد، لما لم يُعترف به كفكر. وحين يكون للمساءلة صوت أنثوي، لا يُطالِب بمقعد على الطاولة، بل يُعيد تشكيل الطاولة ذاتها — فحينها فقط، نكون أمام تحول فلسفي حقيقي، لا في مضمون الأفكار، بل في من يُنتجها، وكيف، ولماذا.